الاثنين، 10 أكتوبر 2011

ثقافة الضوضاء

الشارع مزدحم إلى درجة لا تحتمل، والسيارات واقفة فى أماكنها لا تتحرك إلا ببطء شديد، فاليوم قد يكون أول أيام الأسبوع أومنتصفها أو آخرها لا فرق، وقد يكون الوقت صباحا أو ظهرا أو مساء، لا فرق، وجميعنا نسمع آذان الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، من مساجد متفرقة، وربما من اثنى عشر مسجدا فى المنطقة فى آن واحد، ميكروفوناتها العالية انتشرت على الجدران والشرفات وفوق الأسطح، تنوعت أصوات المؤذنين بين الأجش والناعم، والخشن والرقيق، كلها تشترك وتتنافس فى علوّ درجة الصوت إلى درجة لا تحتمل، تخترق الأعصاب وهى تدعو الناس للصلاة، بعد رفع (الأذانات) بعشر دقائق؛ يتحول المشهد المسموع إلى ضوضاء رهيبة لا يستطيع المرء تمييز أى من أصواتها على حدة، فأصوات أئمة المساجد التى لا يفهمها أحد اختلطت مع أصوات السيارات المزعجة، مع أصوات الباعة ينادون على بضاعتهم، وأصوات سيارة إسعاف ( فى الأغلب مات من بداخلها )، وأصوات الناس فى الشارع ؛ هذا يتشاجر ويسب بأعلى صوت، وذاك ينادى على وجهة الميكروباص: السيدة.. جيزة.. بولاق، طبعا مع أصوات صبيان الميكروباصات الأخرى، ويتصاعد اختلاط الأصوات ليصل إلى ذروة الهيستيريا.. هذا تفصيل ما ما يمر به معظمنا كل يوم فى طريقه إلى العمل أو الجامعة أو المدرسة أو لشراء لوازم البيت، سيمفونية مزعجة من الضوضاء المنفرة التى لا تنتهى تبدأ من الصباح الباكر ولا تهدأ إلا فى ساعات الصباح الأولى.

تذكرت حينها فكرة أستاذنا الدكتور جلال أمين عن الدولة الرِخْوة، الدولة التى يستطيع كل إنسان فيها أن يفعل ما يشاء دون خوف من رادع أو من قانون، وأزيد تكملة لفكرة أستاذنا رحمه الله؛ أنه فى الدولة الرخوة يعلو صوت كل شىء إلا صوت الحق، وفيها تختلط الأصوات محدثة ضوضاء ملوثة للأسماع والأنفس والحياة كلها، فهل أصبحت ثقافتنا فى مصر الرخوة ثقافة الضوضاء؟

الثقافة فى علم الأنثروبولوجيا هى أسلوب الحياة السائد فى أى مجتمع، ولا يتضمن الاستخدام العلمى للكلمة التهذيب أو تقدم المعرفة، والمتأمل لأسلوب حياة المصريين هذه الأيام يصاب بالصدمة، فالبون شاسع والفرق هائل بين ثقافة المصريين حسب التعريف العلمى للثقافة؛ وبين ما تؤديه وزارة الثقافة (إن كان لها دور) فى المجتمع المصري، فوزارة الثقافة بأدائها فى واد؛ والشعب المصرى بثقافته الواقعية فى واد آخر، الوزارة تقوم بمهامها على أكمل وجه فى رعاية الفن والفنانين، فى التنقيب عن الآثار وإدارة المتاحف وإخراج الآثار من البلاد إلى المعارض الدولية لسنوات عديدة، (الآثار التى تذهب بلا رجعة)، فى إقامة مهرجانات الفن والسينما والرسم والنحت، وفى تمويل المسرح وقصور الثقافة والمهرجانات السنوية التى لا طائل من ورائها سوى استنزاف نقود الشعب دون أية فائدة تعود عليه من هذه المهرجانات المزعومة، أما الثقافة فى مفهومها الحقيقى؛ فالوزارة أبعد ما تكون عنه، وإلا فليخبرنى من يعرف كيف لا تتصدى وزارة الثقافة لهذا الطوفان الهائل من الضوضاء والإزعاج والذى يفتك بحياتنا فتكا؟ أوليس تثقيف المصريين من هذه الناحية وغيرها ينبغى أن يحتل أولوية الاهتمامات فى الوزارة العتيدة؟

إن ترك المصريين نهبا لمروجى ثقافة الضوضاء لهو كارثة حقيقية يجب أن نتصدى لها، لمحو آثارها، ولتمكين ثقافة الهدوء والصوت المنخفض من نفوس المصريين، فاستعمال آلات التنبيه فى السيارات بلا داع، واستعمال مكبرات الصوت فى كل مناسبة وفى كل مكان، وعلو أصوات المتحاورين فى وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وتلويث البيئة بالأصوات المنكرة المنبعثة من الكاسيت، والسى دى، والدى جي، كل هذا جعل الحياة فى العاصمة لا تحتمل، وجعل الإصابة بالعديد من الأمراض العصبية أمرا لا مفر منه، وكلها أدواء (جمع داء) ينبغى أن تتصدى لها وزارة الثقافة لتجد لها الدواء، والدواء فى كتاب الله ورد على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: (واقصد فى مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) – سورة لقمان.
فإذا لم تتول وزارة الثقافة هذه المهمة التى تعتبر من صميم أولوياتها كونها وزارة للثقافة ؛ فإننا نطالب أولى الأمر بتغيير اسمها إلى وزارة الفن والآثار والكتب، ولتستحدث وزارة جديدة على غرار وزارة السد العالى فى منتصف القرن الماضي، ولتكن مهمتها الرئيسية؛ إعادة المصريين إلى ثقافة الهدوء والصوت المنخفض، بدلا من تركنا نهبا للضوضاء؛ ولنطالب جميعا بإلغاء استخدام مكبرات الصوت (الميكروفون)، هذا الاختراع المدمر لسوء استعماله فى الشوارع والمساجد والمدارس ووسائل المواصلات وافتتاح المحلات الجديدة والأفراح التى تقام فى شوارع مصر وعند البيع والشراء، أتمنى كما يتمنى كثيرون أن يسود الهدوء ويعم فى أرجاء مصر وأن تختفى الضوضاء المرعبة من حياتنا، فتعود لمصرنا الحبيبة صفة الأمن والأمان والهدوء والإطمئنان والسلام النفسى، فندخلها آمنين مطمئنين على أنفسنا وأبنائنا وأحبائنا من عدم تعرضنا على أرضها للنوبات العصبية والنفسية التى تصيبنا بنوبات اكتئاب أو أمراض نفسية وأخلاقية من تبعات هذه الضوضاء، وتتحقق حينها البشرى الجميلة التى ذكرت فى القرآن الكريم كما قال عز من قائل: ( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)، والله من وراء القصد..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Design by - mohamed ibrahem